احدى التجارب الميدانية في تجربة كرورنا – ايمن جمال البرعي

في مبادرة طيبة، تُحمد له، سارع الزميل العزيز، والأخ الكريم أيمن جمال البرعي، ليحرز قصب السبق، فيفتتح أولى مقالات مشروع “وثَّق تجربتك مع كورونا” والتي تأتي ضمن فعاليات المؤتمر الدولي الافتراضي الأول تداعيات أزمة كورونا على مجاليْ التربية الخاصة والصحة النفسية، الذي تتبناه كلا من مجموعة قادرون للتدريب والتربية الخاصة، بالتعاون مع المؤسسة العربية للتربية والعلوم والآداب.
وفي الحقيقة أن مقال أيمن البرعي، كان مفاجأة فاقت كل تصوراتي، ليس لعمق تحليلاته النفسية ورؤاه، كون صاحبه أخصائيا نفسيا؛ بل أيضا لأنه جمع بين حصافة الباحث، وتصورات الأديب. فـ “أيمن جمال” لديه حس جمالي رائع حين يكتب، وجاءت مشاركته أشبه ما يكون وكأنها في قالب قصصي محكم السبك، جيد التناول. ونصيحتي له بأنَّ عليه أن يستثمر تلك الطاقات الكامنة، في كتابة سلسلة مقالات على نفس النسق.. تصف، وتحلل، وتفسر كثير من الظواهر التي يتعامل معه بوصف مهنيا محنَّكا في مجاله.

كما أدعوا بقية الزملاء للمشاركة في تجربتهم مع كورونا، لاكتشاف مزيد من الطاقات المدفونة. والآن إليكم مقال أيمن جمال البرعي والمعنون ب ” كورونا والتربية الخاصة”. وأنتظر تعليقاتكم.

كورنا والتربية الخاصة
بينما كان الأخصائي النفسي هائم بين تقارير الاختبارات والبرامج الفردية للأطفال؛ كان أخصائي التخاطب مشغولاً بعمل المشروبات الدافئة حتى يستطيع استكمال يومه المتزاحم بالحالات. وفى الغرفة المجاورة كان أخصائي تنمية المهارات يشعر بالسعادة البالغة بعد انتهائه من صنع أداه لزيادة تنمية مدة الانتباه لدى الأطفال، وبفخر شديد اتجه نحو صديقه أخصائي التكامل الحسي ليعرضها عليه، وإذا بصديقه يحاول جاهدا احتواء طفل من ذوي اضطراب طيف التوحد، وقد امتلكته نوبة شديدة الصراخ. وهنا يتدخل أخصائي التربية الخاصة بدراسته المتعمقه وخبراته العملية ليساعده في التعامل مع الطفل.
وبعد يوم طويل من العمل جلس الأخصائيين فى حلقة التفريغ الانفعالي ليوم مليء بالأحداث، يتخلله مواقف مضحكة، وتعليقات الفخر بالإنجاز، ومشاعر السعادة لسماع صوت طفل طالما تمنت أمه سماعه، بعد طول صمت. وبين كل هذا وذاك؛ تطرق سكرتارية المركز أسماعهم بخبر وقف العمل بمراكز وحضانات التربية الخاصة، نظرا لزيارة غير متوقعة من ضيف مجهول الهوية والنسب.. إنه فيروس كورنا!!، لتتحول فجأة تلك الضحكات، والآمال في تحقيق نتائج أفضل، والبحث عن تطوير للذات عن طريق برنامج جديد.. الى إحساس بالمجهول لما هو آت.
وبناء عليه؛ فقد ذهب كل واحد منهم بخياله لمجموعة من الأسئلة غير مستوفاة الأجوبة: فمنهم من تصارعت في ذهنه المسئوليات، والمصروفات، ومنهم من بدأ ينظر لأداته التى فرغ للتو منها ليجد عينيه شاردتان مجهول المصير.
وكعادة البشر تكون الصدمة ممزوجة بمشاعر الإنكار والرفض اللاشعوري، ولكن مع الوقت يبدأ العقل فى تقبل الفكرة والتعامل بواقعية مع الأمر. ولأن الطبع يغلب التطبع ولأن معادن البشر تطغى عليهم، فقد اتجهوا جميعا للتفكير فى استكمال رحلتهم ورسالتهم تجاه من عصفت بهم رياح عاتية اقتلعت في طريقها جميل الأثر وجمال من يصنعه. ثم بدأ الاتجاه الى ما هو بديل، وتعددت الاتجاهات: فمنهم من ذهب الى وضع برامج تأهليلية تكميلية لما كان يقدم فى المراكز، ليقوم أولياء الأمور بتنفيذه مع أبنائهم، ومنهم من اتجه إلى تدريب الأطفال بنظام العهد الجديد، وهو نظام “الأون لاين”؛ لكن فقط لمن يستطيعون استعماله. فيم اتجه آخرون إلى تقديم ما لديهم للأخصائيين من خلال مبادرات تبادل المعلومات، والبث المباشر الذي يتناول موضوعات هامة فى تشخيص وتأهيل الأطفال.
ومع مرور الوقت، وتزايد الاصابات بهذا الفيروس المجهول، ومع القلق المستمر على المستقبل القادم، بدأ الجميع يعانى؛ فأولياء الأمور تسلل اليهم الخوف الممزوج بالحزن على ما وصل إليه أبنائهم من حال، فهذا كان ينتظر الجلسات الأخيرة ليجهز طفله للتقديم فى المدرسة بعدما اجتاز نقاط الضعف التى حددها الأخصائي النفسي فى تقريره، وهذا بدء يتنفس الصعداء بعدما بذله أخصائي التربية الخاصة مع طفله كى ينتبه لاسمه وينتبه للأوامر، وذاك الذي تراجع عن منع طفله من الخروج نتيجة سلوكه المرفوض من الجميع بعد تدخل أخصائي تعديل السلوك، وتلك الأم التى كانت تتمنى سماع كلمة “ماما” من طفلها. وبالرغم من اختلافهم إلا أنهم اجتمعوا على صدمة أكبر وهي الانتكاسة التي تعرض لها أبنائهم. ومن هنا بدأت الاتصالات تنهال على الأخصائيين لتحمل فى طياتها الشكوى والاستفسار والبكاء، ولكن الرد كان مجرد مسكنات من أخصائيين تشغلهم حياة قاسية.
بدأنا نسمع عمن يغلق مركزه، ويبيع أدواته لعدم قدرتة على تحميل الالتزامات المادية الخاصة بالمكان، وعن أخصائي بدأ يبحث عن مصدر رزق آخر كى يساعده على الوفاء بما عليه من التزامات، وعن آخرين تسللت إليهم فكرة تغيير المجال بشكل جذري، فلا نقابة لهم تحميمهم ولا نظام يراعيهم.
جاءت كورونا لتظهر أشياءً كثيرة كنا نتغافل عنها جميعا. كنا نسمع ليل نهار عن مؤتمرات لمزاولة المهنة، وتوفير غطاء قانوني يتظلل تحته العاملين في مجال التربية الخاصة، ويذهب الجميع اليها وهم على يقين بصعوبة تحقيق ذلك لأسباب نعلمها جميعاً، ولكنه الأمل وحده الذي كان يسوقهم. كنا نتسابق الى الدراسات العليا، تلك التي تستنزف طاقاتنا المادية، في سبيل تحسين الوضع، من أجل فرصة سفر تشترط تلك الدرجة العلمية، مع ادراكنا أيضا، بأنها لن تفيد فى ظل ما يتعرض له الوطن العربي من انغلاق على الذات.
وأخيرا، ما يزال الجميع في الانتظار؛ لكنه انتظار لمجهول، ليبقى الأمل دائما وأبدا بيد الله وحده.
أيمن البرعي .. أخصائي نفسي

اترك تعليقاً

لن ينشر بريدك الإلكتروني.